Asma LAMRABET

التفاوت بين أخلاقيات الزواج على مستوى القرآن الكريم والتأويلات الفقهية الجزء الثاني

 

 

كيف يمكن إذن التمييز بين الروايات الموضوعة التي أعدتها عقلية متشبعة بالأعراف، وبين القيم الأخلاقية كما أقرها الوحي؟

من الواضح أن الرعيل الأول من الفقهاء المسلمين تأثروا كثيرا بنموذج الزواج في الجاهلية الذي كان يتم بالإجبار، وأغفلوا تطبيق القيم القرآنية التي ألغت الإكراه بكل أشكاله. فالزواج، حسب المراجع الفقهية التراثية المختلفة، يستجيب لمنطق "الهيمنة" بدل أن يكون "ارتباطا قائما على المساواة الحقوقية" كما أقره الوحي القرآني. وهو في الفقه الإسلامي عقد تبادل "خدمات" يهدف إلى إضفاء طابع المشروعية على العلاقات الجنسية، حيث هدفه أولا وقبل كل شيء تمكين الزوج من تحقيق المتعة الجنسية، ثم التناسل والحفاظ على الأخلاق العامة في المجتمع.

تُستعمل الطاعة المطلقة، والولاية -التي يُعد التسلط جزءا لا يتجزأ منها- و"تشييء" النساء على نحو مشترك كمفاهيم فقهية، رغم أنها غريبة عن الرسالة القرآنية. لم يرد ذكر مفهوم "الولي" في القرآن، واختلفت المذاهب الفقهية في كونه شرطا من شروط صحة النكاح، حيث أجاز المذهب الحنفي مثلا زواج المرأة بغير ولي[1].

نحن إذن بعيدون كل البعد عن المفاهيم القرآنية المختلفة كالميثاق الغليظ الذي يعكس الالتزام الأخلاقي بين الزوجين، ورضاهما والتشاور والمحبة والرحمة المتبادلة بينهما، حيث استُبدلت بمفاهيم تكشف عن المتخيل الثقافي الذكوري للفقهاء القدامى الذين تأثروا ببيئتهم وعرفهم.

وصف القرآن الزواج كتعبير عن الانسجام بين طرفين، في حين شكل الفقه "مرتعا لدونية النساء"، حيث وصفهن "كأشياء" لتحقيق المتعة الجنسية وليس ككائنات اجتماعية وأفراد كاملي الأهلية. وهو ما يتناقض مع القرآن الذي أقر بأن خصوصية الإنسان، سواء أكان امرأة أم رجلا، تتمثل في شرفه وكرامته.

لقد كرم الله عز وجل بني آدم، ذكورا وإناثا، عبر منحهم هذه الكرامة. وبالتالي كيف أمكننا أن نقبل بمفاهيم تتعارض مع هذا المبدإ، الذي يبدو بسيطا في ظاهره إلا أنه أساسي ومحوري في الحياة الإنسانية، رغم أن الخطاب القرآني يؤكد عليه في قوله عز وعلا: "وَلَقَد كَرَّمنَا بَنِى ءَادَمَ"[2]؟

هذا ما نجده للأسف في كتب إسلامية تراثية عديدة لا نختلف في قيمتها العلمية الكبيرة، إلا أنها انحرفت فيما يتعلق بموضوع الزواج عن الرؤية القرآنية والنبوية. فعلى سبيل المثال، فإن الإمام أبا حامد الغزالي عالم جليل يُشهد له بعظمة فكره، وعلمه الزاخر وإسهامه الكبير في الفكر الإسلامي، إلا أنه بقي أسير بيئته الاجتماعية والثقافية وتأثر بها أيّما تأثر حينما اعتبر النكاح نوعا من أنواع الرق، وأن الزوجة عليها طاعة الزوج طاعة مطلقة في كل ما طلب منها في نفسها[3].

والشيء نفسه ينطبق على الإمام ابن قيم الجوزية الذي قارن الزوجة بالمملوك واعتبرها أسيرة تعيش تحت سلطة الزوج المطلقة في قوله:"السيد قاهر لمملوكه حاكم عليه مالك له والزوج قاهر لزوجته حاكم عليها وهي تحت سلطانه وحكمه شبه الأسير"[4]. وهو ما لا يعكس سوى العقلية السائدة في الفترة التي عاشها هذا العالم الجليل والمتمثلة في عهد حكم المماليك.

تُعد المفاهيم الفقهية، التي تشكلت بفعل تداخل الأعراف التليدة التي بقي الفقه حبيسها، نتاج تقهقر حضاري قوامه التسلط السياسي واستغلال الدين لما فيه مصلحة الحاكم الذي يفتقر للشرعية السياسية. وبالتالي فإن صورة المرأة الأسيرة لدى زوجها المُتجذرة في عقليات بعض العلماء المسلمين ليست سوى انعكاس لوضع المسلمين، من الرجال والنساء، الذين يخضعون للسلطة السياسية ويطيعونها ويذعنون لها.

باسم المبادئ الدينية التي انحرفت بقوة عن معانيها الحقيقية، نُشر "فقه الطاعة"، وهو إيديولوجية تلقن الخضوع للظلم وقبول الذلة وتُجمد التفكير وروح النقد بهدف تعزيز الخلط بين الطاعة العمياء للحاكم السياسي والطاعة الواجبة للخالق.

أُفهمت المسلمات باسم الدين بأنهن مجبرات لا محالة على الخضوع لأزواجهن الذين يجب عليهم، بدورهم، أن يخضعوا خضوعا مطلقا لقادتهم السياسيين أو الدينيين الذين تداخلت طوعا سلطاتهم. فمسألة الطاعة لم تنتج فقط عن ثقافة ذكورية راسخة، وإنما هي أيضا مُحصلة ثقافة سياسية مهيمنة تبدأ باستغلال المستضعفين والمحرومين من أجل ترسيخ سلطتها[5].

وختاما، يدعونا القرآن من خلال مفاهيم الزواج التي ذكرناها إلى التحلي بقيم أخلاقية تنبني عليها علاقة الزوجين. فقد نزل الوحي ليحرر النساء من قيود الاستعباد والتسلط الزوجي. فلا يَعتبر القرآن زواج الرجل والمرأة سجنا يفرض على المرأة تحمل أسوإ أشكال التمييز، بل هو مكان يتحقق فيه الانسجام والتوافق بين الزوجين.

أمر الوحي بالحفاظ على ممتلكات الزوجات ومنع معاملتهن بسوء، وبتحريم الإكراه الذي تتعرض له النساء. كما فرض القرآن على الزوجين واجبات ومسؤوليات مشتركة، إلا أن التحذير الذي قمنا بدراسته في هذا الفصل موجه بالدرجة الأولى إلى الرجال.

اعتبر القرآنُ الكريم الزواجَ علاقة تقوم على المعروف الذي لا يترك مجالا في حياة الزوجين للقسوة والبذاءة والإساءة، وملجأ لإفضاء الطرفين لبعضهما بكل ثقة جسدا وروحا. وهو أيضا ميثاق غليظ وعلاقة متينة أخلاقيا وقانونيا تربط بين الشريكين بشكل كامل ومتساو من حيث القبول المتبادل. وينبني الزواج في القرآن على الإحسان في العشرة وفي الفراق أيضا عندما تصبح العلاقة مستحيلة، ويصبح متينا عبر التشاور والتراضي ورمزا للسكينة من خلال سعادة الروح التي يجدها الطرفان عند بعضهما. وبالتالي فإن الزواج حياة مشتركة تسودها المحبة التي يحميها ويعززها الفضل والسكينة الروحية والاحترام المتبادل والعفو عن الخطإ كيفما كان وتجاوزه من خلال التحلي بالمودة والرحمة. وتُلبس هذه القيم الأخلاقية الزوجين نفس اللباس في علاقتهما التي يتحدث عنها القرآن في إطار الفضل وسعة الصدر.

لا شك أن البعض سيعتبر هذه الرؤية الأخلاقية "مثالية" بحيث لا يمكن إنزالها على أرض الواقع الذي يعيشه ملايين الأزواج بنوع من الألم والمرارة والخذلان والمعاناة التي تراكمت مع مرور الوقت... فقد أصبح التحلي بهذه القيم الروحية في هذا الواقع أكثر صعوبة ولاسيما في حياة الزوجين. ورغم أن هذا المعطى صحيح، إلا أن القرآن يبقى رسالة روحية تصف واقعا "مثاليا" بالفعل من أجل محاولة محاكاته والوصول إلى مقاصده. ويجب أن يكون القرآن بالنسبة للمؤمنين والمؤمنات مرجعا جوهريا يتم اللجوء إليه كلما حل طيف الملل والحزن على الحياة اليومية، ويُعتمد عليه حينما يكتسي الظلم غطاء شرعيا باسم الدين. فلا يوجد مبدأ قرآني واحد يبرر الظلم والتمييز مهما كانت الحجج المعتمدة.

رغم أن أخلاقيات الزواج في القرآن أحدثت أولى الثورات الثقافية في الإسلام التي حرّمت التقاليد البائدة وحررت النساء والرجال وأعطت طابعا "إنسانيا" للزواج، إلا أنها لم تتجاوز للأسف عتبة الوحي، وقامت مقامها تفاسير تمييزية أبقتها حبيسة التاريخ. فهذا النموذج المثالي القرآني لم تتحقق مقاصده بسبب إيديولوجية دينية تمييزية بقيت إلى غاية اليوم أحد أكبر العوائق الذي يحول دون تطبيق الأخلاقيات القرآنية في الحياة الزوجية والأسرية.

 د أسماء المرابط



[1]أنظر ابن رشد، "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"، الجزء الثاني، ومقالنا عن التفاسير الفقهية المختلفة في هذا الموضوع: www.asma-lamrabet.com.

[2]سورة الإسراء، الآية 70.

[3] أبو حامد الغزالي، "إحياء علوم الدين"، كتاب النكاح، الباب الثالث، القسم الثاني، "النظر في حقوق الزوج عليها".

[4] ابن قيم الجوزية، "إعلام الموقعين عن رب العالمين"، المجلد 2، صفحة 106، دار الجيل، بيروت، 1973.

[5] "الفردية"، زيد بن علي الوزير، دار النشر المناهل، بيروت 2000؛ هذا الكتاب يقدم تحليلا عميقا لإرساء السلطة الأوتوقراطية في الدول الإسلامية ومبادئها التي أثرت على الفكر الإسلامي.

 

À propos de l'auteur

ASMA LAMRABET

Native de Rabat (Maroc), Asma Lamrabet, exerce actuellement en tant que médecin biologiste à l’Hôpital Avicennes de Rabat. Elle a exercé durant plusieurs années (de 1995 à 2003) comme médecin bénévole dans des hôpitaux publics d'Espagne et d’Amérique latine, notamment à Santiago du Chili et à Mexico.

derniere video

Asma Lamrabet

Les femmes et l'islam : une vision réformiste