التفاوت بين أخلاقيات الزواج على مستوى القرآن الكريم والتأويلات الفقهية الجزء الأول
من المؤسف أن الأخلاقيات التي جاءت في القرآن بخصوص الزواج لا نلمسها في المجتمعات الإسلامية. ولا يتبين تطبيق المفاهيم القرآنية الخاصة بالزواج في واقع المسلمين الذين يعتمدون في الغالب على خطاب لا يمت بصلة للمقصد القرآني ويستعملون مفاهيم مثل سلطة الزوج المطلقة، وحق الرجال في اتخاذ القرارات وإلغائها، وحقهم في "الشرعية" لكونهم رجالا.
إنه واقع إسلامي تسود فيه الأعراف التي حلت محل المبادئ الدينية، مثل "الطاعة" التي أصبحت مبدأ يتردد في الخطابات الإيديولوجية الموجهة للنساء، إذ يقضي بطاعة الزوجة التامة لزوجها معتبرا الطاعة مبدأ إسلاميا صِرفا، في حين لا يوجد له أثر ضمن أخلاقيات الزواج الواردة في القرآن. هذا ناهيك عن العنف، الذي تتعرض له بعض النساء سواء أكان معنويا أم ماديا، وسوء معاملتهن، والتسلط الزوجي الذي يبعث على الأسى، ووضع النساء تحت الوصاية... كل هذه المفاهيم المغلوطة والخاطئة يُعتقد أنها إسلامية وهي تتعارض تماما مع المبادئ الأخلاقية التي جاء بها القرآن، وتم إقرارها للأسف خلال الأزمات الكبرى التي عرفتها فترة الانحطاط الإسلامي.
سمى البعض هذا الواقع الذي اختلطت فيه المفاهيم على مر الزمن "بقلب القيم" الإسلامية inversion des valeurs[1]. إنها مأساة حقيقية عرفتها الحضارة الإسلامية بعد أن تم قلب جميع القيم التي أوحى بها الله في القرآن، وأُفرغت من معناها وانحرفت عنه، وأُثقلت بما ليس فيها من تناقضات، واستُعملت باعتبارها قيما "إسلامية" صِرفا.
هذا ما يعكسه للأسف الفقه الإسلامي الذي أرسى، منذ ظهوره في القرن التاسع الميلادي، مجموعة من الأحكام التمييزية الخاصة بالزواج والعلاقة الزوجية، التي حلت محل القيم القرآنية وقيدت فعليا حقوق النساء. وبالتالي، نستشعر عبر النصوص الفقهية التقليدية الصعوبة التي وجدها الفقهاء المسلمون الأوائل لاستيعاب التقدم الكبير الذي حققه القرآن لصالح النساء على وجه الخصوص وللزوجين عموما. وبالفعل، نعثر في جميع المراجع الفقهية، مع بعض الفرق الذي يرجع إلى اختلاف المذاهب الفقهية، على مفاهيم وتصورات لا وجود لها في كتاب الله العزيز، حيث يمكن اعتبارها "نِتاجا خالصا" لتفسير هؤلاء الفقهاء المسلمين الذين عاشوا في زمان وسياق محددين وتأثروا ببيئتهم.
نلاحظ أن الزواج، الذي يُصطلح عليه في كتب الفقه بالنكاح، يوصف عموما كعقد متعة يترتب عليه "انتفاع الزوج ببضع الزوجة وسائر بدنها من حيث التلذذ". تنص الكتب الفقهية على أن هذا العقد تشريع إلهي يُمَكن الزوج من الانتفاع ببدن الزوجة، ويمنحه الحق في "التمتع" بها، ويحصِر المعقود عليه في الانتفاع بالمرأة وتحقيق اللذة الجنسية[2]. وتُعد المرأة في "عقود" النكاح، حسب نفس المراجع الفقهية، أولا وقبل كل شيء جسدا "يمتلكه" الرجل و"ينتفع" به، بعد أن دفع الصداق للزوجة وتعهد بالإنفاق عليها من خلال "واجب النفقة"[3]. عرّفت بعض المذاهب الفقهية النكاح بأنه عقدُ تمليك، في حين شبهته مذاهب أخرى بعقد بيع وشراء[4].
إن عقد النكاح في الفقه ليس تعاقدا بين شريكين هما رجل وامرأة كما جاء في القرآن، وإنما بين طرفين هما الزوج وولي الزوجة، أما المعقود عليه فهو المرأة والصداق[5]. تتمثل واجبات الزوج في الإنفاق على الزوجة ودفع الصداق، لتصبح الزوجة في المقابل "ملكية" خاصة بالزوج تَلزمها طاعته طاعة تامة.
وبالتالي يُعد مفهوم الطاعة حجر الزاوية الذي ينبني عليه الزواج والعلاقة بين الزوجين على مستوى الخطاب الإسلامي التقليدي والمعاصر على السواء، إذ تفقد جميعُ المبادئ الأخرى قيمتها في حياة المرأة المسلمة، باستثناء مبدإ طاعة الزوج الذي تعتبره بعض الخطابات الإسلامية المفتاح الكفيل بفتح أبواب الجنة لتلك الزوجة.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن وجوب طاعة الزوجة لزوجها لم يرد ذكره في أي من الآيات القرآنية، بل إن جميع المفاهيم التي وردت في القرآن عن الزواج تتعارض مع مفهوم الطاعة المطلقة، مثل مفهوم التشاور والتراضي اللذين يُشكلان نواة العلاقة الزوجية ومحورها، وكذا جميع المبادئ القرآنية الأخرى من محبة ومودة ورحمة متبادلة.
يستدل المدافعون عن مفهوم الطاعة بأحاديث نبوية تبرر طاعة الزوجة لزوجها وتعطيها قيمة جوهرية في العلاقة الزوجية. وتوجد بالفعل أحاديث تصب في هذا الاتجاه، لكن لا يجب أن نغفل عن وضعها في سياقها الذي وردت فيه وفهم أسباب ورودها والمقصد منها بدل التوقف عند معناها الحرفي.
يحق لنا في هذا السياق أن ننتقد استغلال هذا النوع من الأحاديث النبوية، وتضخيمها على حساب أحاديث كثيرة أخرى تحمل معاني مختلفة تماما. لا بد من أخذ الحيطة والحذر من بعض الأحاديث الموضوعة التي تُنسب للنبي (ص)، ولا سيما عندما يتعارض فحواها مع الأخلاقيات القرآنية وتعاليم النبي (ص)، الذي تفند الروايات المنقولة عن سيرته الطاهرة هذه الأقاويل.
للمزيد من التوضيح، نسوق مثالا لحديثين نبويين. اختلفت روايات الحديث الأول إلا أن الرواية المشهورة تقول بأن الصحابي الجليل معاذ بن جبل، "لما قدم من الشام سجد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:(ما هذا يا معاذ؟)،قال: أتيت الشام فوافيتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددت في نفسي أن أفعل ذلك لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(فلا تفعلوا فإني لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها.)"[6].
أول ما يُلاحظ في هذا الحديث أن مضمونه يتناقض تناقضا صارخا مع المبدإ المحوري والجوهري الذي جاء به الإسلام ألا وهو التوحيد، أي ألا نعبد إلا الله الواحد الأحد وألا نسجد لغيره.
لكن ما صدر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه يثير الكثير من علامات الاستفهام، وهو الإمام الفقيه الذي ورد عنه في حديث صحيح أن الفضل يرجع إليه في مسألة الاجتهاد لأنه أول من أفتى بها[7]. فكيف يمكن لهذا الصحابي الجليل إذن أن يقبل رؤية الناس تسجد لبعضها والتنويه بذلك إلى درجة القيام به أمام النبي الكريم الذي بُعث ليحرر الناس من السجود للأوثان والبشر على السواء، ويعلمهم أن يتوجهوا مباشرة لبارئهم بكل حرية ودون وسيط؟ كيف لنا أن نمتنع عن طرح التساؤلات عندما نقرأ أن هذا الأمر قد صدر عن النبي (ص)، وهو الذي لم يتوان عن تشجيع النساء على الاستقلالية والتحرر من القمع القبلي والاضطهاد وثقافة التمييز، وهو الذي قال بأن "النساء شقائق الرجال" وغيرها من الأحاديث الصحيحة التي تصب في هذا الاتجاه؟ في هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن بعض العلماء صنفوا الحديث المتعلق بسجود المرأة للرجل وأحاديث أخرى كثيرة عن النساء، في خانة الأحاديث الضعيفة[8].
أما عن الحديث الثاني، فيُروى أن "رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لِلْمَرْأَةِ سِتْرَانِ: الْقَبْرُ، وَالزَّوْجُ، قَالَ: فَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْقَبْرُ"[9]. ورغم أن العديد من العلماء اعتبروا هذا الحديث موضوعا، إلا أنه ما زال يُتداول ويُعتمد كمرجع عند البعض بغض النظر عن تعارضه الصارخ مع المبادئ القرآنية والتعاليم النبوية حيث إن جميع أقوال النبي (ص) وأفعاله تكذب هذا النوع من الادعاءات.
لا يمكن أن يفضل النبي (ص) رؤية النساء مدفونات في القبور، في حين كان يحث النساء على المشاركة السياسية من خلال البيعة ويشجعهن على تسجيل حضورهن في جميع مناحي الحياة، داخل المساجد وفي الحياة الاجتماعية والسياسية، ويخول لهن المطالبة بحقهن في الاستقلالية المادية، وحرية التصرف والتعبير. فكيف يمكن التفكير لوهلة في ترديد مثل هذه الأقاويل ونسبها للنبي الإنسان الذي لم يظلم في حياته قط أحدا أبدا كيفما كان، والذي قال عنه الله عز وعلا: "وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ"[10]؟
توجد مجموعة من الأحاديث الأخرى على نفس المنوال تُصنف معظمها في حكم الأحاديث الضعيفة أو التي وقع عليها الجدال، لكنها بقيت مدونة في المراجع التراثية ونقلت من جيل لآخر لكي تترسخ في الأذهان صورة محقرة للنساء، وواجب طاعة الزوج، وأفضلية الرجال. وقد أقر بعض العلماء البارزين بجواز العمل بالأحاديث الضعيفة، كالإمام أحمد بن حنبل الذي برر ذلك بغلبة العرف[11].
لا يجب أن نقبل باسم الإسلام ترديد هذا النوع من الروايات التي يتعامل معها البعض بنوع من التقديس، إذ زرعت الشك والإحساس بالذنب في قلوب عدد كبير من المسلمين، ولاسيما المسلمات اللواتي يحرصن على ممارسة شعائرهن الدينية والاستجابة للأوامر الإلهية، وبالتالي يجدن أنفسهن مجبرات على الرضوخ لمثل هذا النوع من الإملاءات التي تفرضها إيديولوجية تمييزية لا تتلاءم البتة مع الأخلاقيات الإسلامية السامية.
[1]Eric Geoffroy, « L’islam sera ou ne sera pas spirituel », Editions le Seuil, Paris 2009.
[2] "كتاب الفقه على المذاهب الأربعة"، عبد الرحمان بن عود الجزيري، دار الكتاب العربي، 2005، بيروت، كتاب النكاح. كتاب راجعه مجموعة من علماء الأزهر.
[3] أنظر المرجع أعلاه.
[4] أنظر المرجع أعلاه.
[5]أنظر المرجع أعلاه.
[6] أخرجه الترمذي (حديث رقم 1159)، وابن ماجة (قم 1852).
[7] أخرجه أبو داوود والترمذي والدارمي.
[8] أنظر الدراسة التحليلية للدكتورة سهيلة زين العابدين، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، "طاعة الزوج: نظرة تصحيحية": http://dr-suhaila-z-hammad.blogspot.com/2011/10/blog-post_7705.html
[9] أورده الطبراني، "المعجم الكبير" 271/3.
[10]سورة القلم، الآية 4.
[11]أنظر الدراسة السابقة للدكتورة سهيلة زين العابدين.
À propos de l'auteur
ASMA LAMRABET
Native de Rabat (Maroc), Asma Lamrabet, exerce actuellement en tant que médecin biologiste à l’Hôpital Avicennes de Rabat. Elle a exercé durant plusieurs années (de 1995 à 2003) comme médecin bénévole dans des hôpitaux publics d'Espagne et d’Amérique latine, notamment à Santiago du Chili et à Mexico.